"لو كنت مجرب الغربة عن الوطن ما قلت كذاك.."، قالها والدي بشيء من الحرقة والغيرة بعد أن وضع فنجان قهوته على الأرض-وهو أمر نادر الحدوث- إثر حديث عائلي مع أخي حميد الذي تعمد استفزازه بقوله :"لو ما رجعت عمان كان يواحي تو جنسيتنا غير"، فكانت الشرارة التي شبت في أضلع الوالد ودفعته لتقديم محاضرة مطولة عن الوطن.
في تلك اللحظات كنت اتساءل في نفسي عن علاقة الإنسان العماني بوطنه رغم الظروف القاسية التي دعت كثير من الشباب العمانيين في فترة قبل السبعين للهجرة خارج عمان بحثاً عن الرزق، اتساءل عن ارتباط الوجدان بالوطن، وبالأرض التي نشأ عليها.
هذا التساؤل قادني لسؤال أكبر: هل ارتباط الإنسان –أي إنسان- يكون بالأرض التي نشأ عليها أو بالوطن كـ"اسم"؟، وما هو الوطن أصلاً؟!
هذا الفضول قادني للبحث عن ما يروي عطش المعرفة لدي، فوجدت أن نقاط الاختلاف في التفسير والتعاريف كثيرة، لكن تجتمع في مجملها بهذه النقاط:
- "الوطن هو الإنتماء"، فأي مكانٍ تنتمي إليه فهو وطنك.
-الوطن ليس أرض فقط، بل تاريخ وموروث وحضارة وفنون وتقاليد.
- الوطن هو المنشأ الذي نبتَ وترعرعت فيه، وهو منشأ آباءك وأجدادك.
في السنة النبوية يروى عن الرسول الكريم (ص) أنه قال عن مكة والتي تعتبر موطنه الأول :"ما أطيبك من بلدٍ وما أحبك إليّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنتُ غيرك"، وهذا يعني أن إقامة شخصٍ ما لأي سببٍ كان خارج موطنه لا ينتزع منه الارتباط والانتماء الوجداني والعاطفي بالوطن، فالمولود بدمٍ عماني ولو عاش في المريخ سيبقى انتماءه اولاً وأخيراً للوطن، ومهما كان السبب الذي جعلك تعيش في الخارج سيبقى انتماءك وولاءك وحبك العاطفي لوطنك.
وبالمناسبة؛ هذا المفهوم كان حاضراً لدى جلالة السلطان قابوس منذ الأيام الأولى لتوليه الحكم عام 1970م، عندما خاطب أبناء شعبه الذين كانوا خارج الوطن بسبب ظروف المعيشة آنذاك ومنهم والدي الكريم، فقال في خطابه بتاريخ 09 أغسطس1970م :" تتجه أفكارنا الآن إلى إخواننا الذين أجبرتهم ظروف الماضي التعس الى النزوح إلى خارج الوطن، فلأولئك الذين بقوا على ولائهم لوطنهم ولكنهم اختاروا البقاء في الخارج نقول سنتمكن في وقت قريب من دعوتكم لخدمة وطنكم".
في أثناء بحثي عن معنى الوطن كنت قد وضعت في مقدمة اولوياتي إيجاد تفسير منقطي للغيرة الكبيرة التي تحدث بها والدي عن الوطن، رغم ما كانوا يعانوه من ضنك العيش في تلك الفترة، فلم أجد أبلغ من المقولة الطريفة للفيلسوف الفرنسي فولتير عندما قال: "الخبز في الوطن خير من بسكويت الأجانب"، هذه العبارة كفيلة بتفسير أشياء كثيرة تتعلق بحب الوطن.
خلاصة القول إن مفهوم الوطن أكبر من كونه أرض ملموسه، بل هو انتماء واعتزاز بالتاريخ وبالحضارة والثقافة والفنون وحتى العادات والتقاليد، وحب الوطن هو ذاك الشعور الذي يدفعك وبكل شجاعة لتقديم روحك من أجله. وهو ذاته الذي يدفعك في الاسترسال تعبيراً عن اعتزازك وفخرك به حتى ولو بردت قهوتك المفضلة كما برد فنجان أبي.